تنبيه: يوجد في نهاية المجلد الثامن من المجموع ((الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى)) إضافة فوائد جديدة لم تكن في المطبوع
شرح صحيح البخاري يوميا عدا الجمعة بعد صلاة المغرب بالمسجد النبوي

حقوق ولاة الأمر المسلمين النصح والدعاء لهم والسمع والطاعة في المعروف

9/7/1433هـ

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛ فمن المعلوم أن المسلمين لا يستقيم أمرهم إلا بولاية تقيم فيهم شرع الله وتحكمهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحصل لهم بها الأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ويتمكنون فيها من إقامة شعائر دينهم بأمن وراحة واطمئنان، وقد جاء في الكتاب العزيز والسنة المطهرة بيان حقوق ولاة أمورهم عليهم، وذلك بالنصح والدعاء لهم وأن يُسمع ويطاع لهم في المعروف، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وقد جاء في تفسير أولي الأمر في الآية عند السلف بالأمراء وبالعلماء وبما يشمل العلماء والأمراء، وقد رجح القرطبي وابن كثير في تفسيريهما شموله للعلماء والأمراء، فيُسمع للعلماء ويطاع فيما يبينونه من أمور الدين، ويُسمع للأمراء ويطاع  فيما يأمرون به مما ليس معصية لله عز وجل، ويدل لطاعة العلماء قول الله عز وجل في سورتي النحل والأنبياء: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، ويدل لطاعة الأمراء قوله صلى الله عليه وسلم: ((السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ ما لم يُؤمَر بمعصيةٍ، فإذا أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة)) رواه البخاري (7142) ومسلم (1839) مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الطاعةُ في المعروف)) رواه البخاري (7145) ومسلم (1840) من حديث عليّ رضي الله عنه، وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((عليك السمعَ والطاعةَ في عُسرِك ويُسرِك، ومَنشَطِك ومَكرَهِك، وأثرَةٍ عليك)) رواه مسلم (1836) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مسلم أيضاً (1837) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((إنَّ خليلي أوصاني أن أسمعَ وأُطيعَ، وإن كان عبداً مُجَدَّعَ الأطْرافِ)).

وقد جاء عن جماعة من السلف الحث على السمع والطاعة ولزوم الجماعة والتحذير من الفرقة والخروج على الأئمة، ففي سنن الدارمي (257) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة))، وقال الإمام أحمد في اعتقاده كما في السنة للالكائي (1/161): ((ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق))، وقال الطحاوي كما في عقيدة أهل السنَّة: ((ولا نرى الخروجَ على أئمَّتِنا ووُلاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا نَنْزِعُ يداً مِن طاعتهم، ونرى طاعتَهم مِن طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم بالصّلاح والمعافاة))، وقال ابن أبي جمرة كما في فتح الباري لابن حجر (13/7) في شرح حديث: ((مَن رأى مِن أميره شيئاً يكرهُه فليصبر عليه؛ فإنَّه مَن فارق الجماعةَ شبرًا فمات إلا مات مِيتةً جاهليّة)) قال: ((المرادُ بالمفارقة السعيُ في حلّ عقد البيعة التي حصلتْ لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنَّى عنها بمقدار الشِّبر؛ لأنَّ الأخذَ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حقٍّ))، وذكر ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً لقاعدة سد الذرائع، قال في آخرها (3/171): ((الوجه الثامن والتسعون: نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج عليهم وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة، سدًّا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال: (إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما) سدَّاً لذريعة الفتنة))، وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (2/117): ((وأمَّا السمعُ والطاعةُ لوُلاة أمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشِهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربِّهم))، وما أحسن وأجمل قول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: ((تكون أمورٌ مشتبهاتٌ، فعليكم بالتؤدة؛ فإنَّ أحدَكم أن يكون تابعاً في الخير خيرٌ مِن أن يكون رأساً في الشرِّ)) رواه البيهقي في الشعب (7/297).

والحاكم المسلم لا يجوز الخروج عليه إذا وجد منه فسق أو جور ما لم يحصل منه كفر واضح بيِّن، وأما الكافر سواء كان كفره أصلياً أو مرتداً فإنه يجوز الخروج عليه إذا غلب على الظن التخلص منه، وقد دلَّ على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى البخاري (7055) ومسلم (1709) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في مَنشَطِنا ومَكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثرَةٍ علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه، إلَّا أن ترَوا كفراً بَواحاً عندكم مِن الله فيه بُرْهانٌ))، وروى مسلم في صحيحه (1855) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خيارُ أئمَّتكم الذين تحبُّونهم ويحبّونكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم، وشِرارُ أئمَّتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذُهم عند ذلك؟ قال: لا! ما أقاموا فيكم الصلاةَ، لا! ما أقاموا فيكم الصلاةَ، ألا مَن وليَ عليه والٍ، فرآه يأتِي شيئاً مِن معصيةٍ، فليكره ما يأتِي مِن معصية الله، ولا ينزعنَّ يداً مِن طاعةٍ))، وروى مسلم (1854) عن أمّ سلمة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((إنَّه يُستعمل عليكم أُمراءُ، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئَ، ومَن أنكر فقد سلِم، ولكن مَن رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلُهم؟ قال: لا! ما صلّوا)).

ومن حقوق ولاة الأمر المسلمين على الرعية النصح لهم سراً وبرفق ولين والسمع والطاعة لهم في المعروف، ومِن أدلَّة النُّصح لهم قولُه صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصيحةُ، قلنا: لِمَن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم (95)، وروى الإمامُ مالك في الموطأ (2/990) عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثاً، ويسخطُ لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا مَن ولاَّه اللهُ أمرَكم، ويسخطُ لكم قيلَ وقالَ، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال))، ورواه أيضاً الإمامُ أحمد في مسنده (8799)، وهو حديثٌ صحيحٌ، وفي مسند الإمام أحمد (21590) بإسنادٍ صحيحٍ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في حديثٍ طويلٍ، وفيه: ((ثلاثُ خصال لا يغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ وُلاة الأمر، ولزومُ الجماعة؛ فإنَّ دعوَتَهم تُحيطُ مِن ورائهم))، قال ابن القيِّم في مفتاح دار السعادة (ص:79) في معنى ((لا يغِلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم)): ((أي لا يحمل الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنَّها تنفي الغِلَّ والغِشَّ وفسادَ القلب وسخائمَه)) إلى أن قال: ((وقولُه (ومناصحةُ أئمّة المسلمين): هذا أيضاً منافٍ للغلِّ والغشِّ؛ فإنَّ النَّصيحةَ لا تجامعُ الغلَّ؛ إذ هي ضدّه، فمَن نصح الأئمَّةَ والأمَّةَ فقد برِئَ مِن الغلّ، وقولُه: (ولزومُ جماعتهم): هذا أيضاً مِمَّا يطهِّرُ القلبَ مِن الغلِّ والغشِّ؛ فإنَّ صاحبَه للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسرُّه ما يسرُّهم))، وقال النووي في شرحه على مسلم (2/38): ((وأمَّا النَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين فمعاونَتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيه، وأَمْرُهم به، وتنبيهُهم وتذكيرُهم برِفقٍ ولطفٍ، وإعلامُهم بما غفلوا عنه ولم يبلغْهم مِن حقوق المسلمين، وتركُ الخروج عليهم، وتألُّفُ النَّاس لطاعتهم، قال الخطّابي رحمه الله: ومِن النَّصيحة لهم الصلاةُ خلفَهم، والجهادُ معهم، وأداءُ الصّدقات إليهم، وتركُ الخروج بالسّيف عليهم إذا ظهر منهم حيفٌ أو سوءُ عِشرةٍ، وأن لا يُغرُّوا بالثّناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى لهم بالصّلاح))، وقال ابن حجر في الفتح (1/138): ((والنَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين إعانَتُهم على ما حمِّلوا القيامَ به، وتنبيهُهم عند الغفلة، وسدُّ خلَّتهم عند الهفوة، وجمعُ الكلمة عليهم، وردُّ القلوب النَّافرة إليهم، ومِن أعظم نصيحتهم دفعُهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومِن جملة أئمَّة المسلمين أئمَّةُ الاجتهاد، وتقع النَّصيحةُ لهم ببَثِّ علومِهم، ونشرِ مناقبِهم، وتحسينِ الظّنِّ بهم))، وقال ابن الصلاح كما في جامع العلوم والحكم (1/223): ((والنَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين معاونَتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيه وتذكيرُهم به وتنبيهُهم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق))، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/222): ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل)).

وإذا ظهرت أمور منكرة من مسئولين في الدولة أو غير مسئولين سواء في الصحف أو في غيرها فإن الواجب إنكار المنكر علانية كما كان ظهوره علانية، ففي صحيح مسلم (177) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

ومن النصح للولاة المسلمين الدعاء لهم وعدم الدعاء عليهم، وهي طريقة أهل السنة والجماعة، وقد مر شيء من ذلك في كلام الطحاوي والخطابي وابن الصلاح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعيَّة (ص129): ((ولهذا كان السَّلَفُ كالفُضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوةٌ مجابةٌ لدعونا بها للسلطان))، وقال الشيخ أبو محمد الحسن البربهاري في كتابه شرح السنَّة (ص116): ((وإذا رأيتَ الرَّجلَ يدعو على السلطان فاعلم أنَّه صاحبُ هوى، وإذا رأيتَ الرَّجلَ يدعو للسلطان بالصّلاح فاعلم أنَّه صاحبُ سنَّةٍ إن شاء الله، يقول فضيل بن عياض: لو كانت لي دعوةٌ ما جعلتُها إلا في السلطان))، ثمَّ أسند إلى فضيل قولَه: ((لو أنَّ لي دعوةً مستجابةً ما جعلتُها إلَّا في السلطان، قيل له: يا أبا عليّ! فسِّرْ لنا هذا، قال: إذا جعلتُها في نفسي لم تعْدُنِي، وإذا جعلتُها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العبادُ والبلاد، فأُمرنا أن ندعوَ لهم بالصَّلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وإن جاروا؛ لأنَّ ظلمَهم وجورَهم على أنفسهم، وصلاحَهم لأنفسهم وللمسلمين))، وقال الشيخ أبو إسماعيل الصابوني في كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص92ـ93): ((ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرهما مِن الصلوات خلف كلِّ إمامٍ مسلمٍ، برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهادَ الكفرة معهم وإن كانوا جوَرَةً فجَرةً، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصّلاح وبسط العدل في الرَّعيَّة)).

وقد أوضحت حقوق ولاة الأمور المسلمين في رسالة: ((قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني)) طبعت مفردة في 1423هـ، وطبعت سنة 1428هـ ضمن مجموع كتبي ورسائلي (4/7ـ185)، وانتُزع منها ما يتعلق بحقوق الولاة فطبع على حدة في رسالة صغيرة في 1428هـ، وأكثر ما في هذه الكلمة مأخوذ منها.

وأولى المسملين في هذا الزمان بهذه الحقوق ولاة الأمر في بلاد الحرمين الذين شرَّفهم الله بهذه الولاية ووفقهم لتطبيق شرع الله في هذه البلاد الواسعة، وكل من يحاول الإخلال بالأمن فيها جان على نفسه قبل أن يكون جانياً على غيره، ولا حدَّ لضرره لما فيه من السعي للإخلال بالمكاسب العظيمة التي ورَّثها الملك عبد العزيز رحمه الله، ولذا فإن من الخير لكل ناصح لنفسه أن يحرص على بقاء هذه الولاية ملتزمة بالأسس التي قامت عليها، وهي التمسك بالكتاب والسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم ويصرف عنهم شرارهم، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبد المحسن بن حمد العباد البدر