تنبيه: يوجد في نهاية المجلد الثامن من المجموع ((الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى)) إضافة فوائد جديدة لم تكن في المطبوع
شرح صحيح البخاري يوميا عدا الجمعة بعد صلاة المغرب بالمسجد النبوي

بيان سلامة الحافظين النووي والعسقلاني من عقائد المتكلمين

20/08/1438هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد، فإن من العلماء الذين اشتهروا بالعلم وكثرت تصانيفهم فيه وذاع صيتهم واستفاد طلاب العلم بعدهم من تراثهم، الحافظين أبا زكريا يحيى بن شرف الدين النووي المتوفى سنة 676هـ، وأبا الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، وقد اشتملت بعض مؤلفاتهما المشهورة على ذكر اعتقادات المتكلمين وتأويلات المؤولين من الأشاعرة وغيرهم، وقد كنت حريصاً على أن أجد ما يدل على سلامتهما من عقائد المتكلمين واتباعهما في العقيدة ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم في إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بكماله وجلاله إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل؛ كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فقد أثبت لنفسه السمع والبصر في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، ونزه نفسه عن مشابهة غيره له في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقد وجدت بحمد الله الضالة المنشودة والبغية المطلوبة.


أما الحافظ النووي فقد وجدت له مؤلفا اسمه «جزء فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات» طبع في عام 1429هـ بتحقيق محمد بن عبداللطيف محمد الجمل، وقد جاء في ختام هذا الجزء (ص91): «اللهم اجعله شاهدا لنا لا علينا، ووفقنا وسائر أحبابنا لمرضاتك، وأمتنا على هذا المعتقد معتقد الصحابة والتابعين والمشايخ والصالحين، إنك على ما تشاء قدير، واجمع بيننا وبين مشايخنا ومن أحببناه وأحبنا في دار كرامتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، ثم قال المصنف رحمه الله: فرغنا من نسخه الخميس الثالث من شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة»، وكانت وفاة النووي رحمه الله كما في العبر للذهبي في الرابع والعشرين من شهر رجب سنة 676هـ، أي أن المدة بين الانتهاء من تأليف الكتاب ووفاته تقل عن خمسة أشهر.

قال النووي رحمه الله في مطلع كتابه «جزء فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات» (ص27): «أما بعد، فلما ظهرت الشكوك والشبهات، وكثرت المطاعن والتمويهات، وانتشرت مقالة ذوي الأهواء والتعصبات، وعمت بها البلوى في جميع الأقطار والجهات، سألني من إجابته من الواجبات، وإسعافه من أعظم المثوبات، أن أجمع له زبد أقوال المتقدمين وغاية ما عولوا عليه من الاعتقاد في الحروف والأصوات، وما نقل عنهم في ذلك من الاختلافات، والتنصيص على ما ذهب إليه علماء الشرع ونقلة الأحاديث الثقات»، وقال في (28): «ويشمل هذا المختصر على قسمين:

القسم الأول: في ذكر ما ننقله عن الشيخ الجليل الإمام المتقن الحافظ الأوحد فخر الدين أبي العباس أحمد بن الحسن بن عثمان بن الأرموي الشافعي رضي الله عنه فيما صنفه في كتابه الموسوم بـ«غاية المرام في مسألة الكلام».

والقسم الثاني: فيما وضعته في كتابنا الموسوم بكتاب التبيان».

قال أبو العباس بن الأرموي في (ص38): «مسألة كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات المفيدة لأمور الشرع المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم بنظم القرآن، وهو الموجود بين أظهرنا الذي نتلوه بألسنتنا ونحفظه أولادنا ونكتبه في مصاحفنا، وليس لله كلام سواه»، أقول: يريد بقوله: «وليس لله كلام سواه» الرد على الأشاعرة القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.

وذكر (ص39) أن هذا هو الذي عليه العلماء كالشافعي وأحمد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ويزيد بن هارون وعبدالرحمن بن مهدي وإسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة ويوسف بن الماجشون وغير هؤلاء من الأئمة والسادات من كبار العلماء والمحدثين، ممن يضيق هذا المختصر عن ذكرهم وتعدادهم.

ثم قال: (ص39): «وذهب أبو الحسن الأشعري وأتباعه كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك، وأبي بكر الباقلاني، وأبي القاسم القشيري، وأبي القاسم الإسفراييني، وأبي محمد الجويني وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم إلى أن هذه الحروف والأصوات التي نتلوها ويحفظها أولادنا ونرجع إليها في حلالنا وحرامنا المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم بنظم القرآن محدثة وإنها عبارة ودلالة على الكلام القديم ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كلام قديم»، أقول: انتهى أمر أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين إلى الرجوع إلى اعتقاد أهل السنة والجماعة كما هو مثبت في رسالة له في ذلك ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، وهي الرسالة الثامنة من الجزء الأول من هذا المجموع.

ثم قال في نصرة القول الحق ورد الباطل: «ووجه البرهان على ما ادعيناه أن نقول كلام الله تعالى منزل، والمنزل ليس إلا الحرف والصوت ينتج أن كلام الله هو الحرف والصوت، فإذا أثبتنا أن كلام الله هو الحرف والصوت وذكرنا الدليل على المقدمات ثبت كونه قديماً بالإجماع»، أقول: لا يقال إن كلام الله الذي لا ينحصر كله قديم، والحق أن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، فهو سبحانه متكلم بلا ابتداء ويتكلم بلا انتهاء؛ لأنه سبحانه وتعالى لا بداية له فلا بداية لكلامه ولا نهاية له فلانهاية لكلامه؛ ونتيجة ذلك أنه لا حصر لكلامه، وقد كلم موسى فسمع موسى كلامه، ويكلم أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فيسمعون كلامه، وقد جاء في القرآن آيتان تدلان على أن كلام الله لا ينحصر؛ وهما قول الله عز وجل في سورة الكهف: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، وقوله في سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ثم ذكر أدلة من القرآن والسنة والإجماع على كون القرآن منزلا (ص40ــ51).

ثم قال (ص51): «والعجب أن كتب الأشاعرة مشحونة بأن كلام الله منزل على نبيه، ومكتوب في المصاحف، ومتلو بالألسنة على الحقيقة، ثم يقولون: المنزل هو العبارة، والمكتوب غير الكتابة، والمتلو غير التلاوة، ويشرعون في مناقضات ظاهرة وتعقبات باردة ركيكة»، إلى أن قال: «وسنبين في خاتمة الكتاب حقيقة الكلام في هذه المباحثات إن شاء الله تعالى، يُعلم بما ذكرنا في الآيات والأخبار المتضمنة إجماع الصحابة وإجماع غيرهم من العلماء والعقلاء أن كلام الله القديم منزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازاً، والمنزل ليس إلا الحرف والصوت إما بالإجماع أو لاستحالة نزول المعنى القائم، فتعين أن يكون الحرف والصوت هو كلام الله ضرورة انعقاد الإجماع على تحققه ونزوله، ويلزم من ذلك قدمه في الإجماع»، أقول: جاء في اثناء كلامه الإشارة إلى أن الكتابة هي المكتوب والتلاوة هي المتلو، وهذا صحيح إذا أريد به أن لفظ القرآن قد يأتي مرادا به القراءة؛ كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي القراءة، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته، وقال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» رواه النسائي (1015) بإسناد صحيح، والمعنى زينوا القراءة بأصواتكم، ولا يقال: إن تلاوة القارئ وما يتلوه شيء واحد؛ لأن المتلو كلام الله، والتلاوة فعل القارئ، ولهذا يأتي في كلام بعض السلف: (الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري)، ويقال مثل ذلك في الفصل الذي عقده في (ص72) فقال في أوله: «فصل في أن القراءة هي المقروء وأن الكتابة هي المكتوب»، ثم ذكر اعتراضات كثيرة من الأشاعرة على مذهب أهل السنة من (ص51ــ57)، ثم ذكر عشرين وجها لبيان أن المنزل هو الحروف وليس المعنى القائم بالنفس إلى (ص64)، ثم أجاب على اعتراضات الأشاعرة إلى (ص67)، ثم ذكر فصلا في (ص68) في إثبات الحرف لله عز وجل استدل له من القرآن، وقال: «والكلمات هي الحروف المتآلفة المفيدة، وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، قال الأصمعي والفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهم من أهل اللغة: التأكيد بالمصدر يدل على ارتفاع الواسطة، فثبت أنه يقال: كلم موسى بكلام سمعه بحاسة أذنه، ولذلك امتن الله عليه في قوله: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي}، فلولا أنه سمع كلامه وإلا لم يكن للتخصيص فائدة»، ثم ذكر فصلا (ص69) في إثبات الصوت لله تعالى، قال في أوله: «ينطق الكتاب العزيز بذلك في مواضع: منها في سورة القصص {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ}، وفي سورة النمل {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ}، وفي طه {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ}، والنداء لا يكون إلا بصوت عند جميع أهل اللغة، وكذلك قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}، والاستماع لا يكون إلا لصوت مسموع، وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}، والنداء بالإجماع لا يكون إلا بصوت»، إلى أن ذكر في (ص70) حديث عبدالله بن أنيس مرفوعا: «يحشر العباد يوم القيامة فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان»، أقول: أخرجه الحاكم في المستدرك في موضعين (2/438) (4/574) وصححه وأقره الذهبي وحسَّنة الحافظ في الفتح (1/174) والألباني في صحيح الأدب المفرد (746)، ثم ذكر فصلا (ص79) في أن كلام الله مسموع، والمسموع ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فتكون هي كلام الله حقيقة، وإذا كانت هي كلام الله حقيقة لا يكون غيرها كلام الله ضرورة؛ لأن كلام الله أحد الشيئين، وليس هو ذلك الذي هو غيره، فينبغي المصير إلى هذا في الصفات.

ثم ختم النووي رحمه الله ما نقله عن أبي العباس الأرموي رحمه الله بفصل نفيس (ص80ــ82) ذكر فيه عقيدة السلف في الصفات فقال: «فصل في أحاديث تؤكد القول بهذا المعتقد وتؤيده على هذا التنزيه الذي عليه أئمة الإسلام حشرنا الله على معتقدهم وأماتنا على محبة السلف الصالحين والأئمة المهديين رضي الله عنهم أجمعين»، إلى أن قال: «ونؤمن بجميع أحاديث الصفات لا نزيد على ذلك شيئاً ولا ننقص منه شيئاً كحديث قصة الدجال وقوله فيه: «وإن ربكم ليس بأعور»، وكحديث النزول إلى السماء الدنيا، وكحديث الاستواء على العرش، وإن القلوب بين أصبعين من أصابعه، وإنه يضع السماوات على إصبع و الأرضين على إصبع، ونقول بتصديق حديث المعراج وبصحيح ما فيه من الروايات وندين أن الله مقلب القلوب، وما أشبه هذه الأحاديث جميعها كما جاءت بها الرواية من غير كشف عن تأويلها، وأن نمرها كما جاءت، وأن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، وأن الله يقرب من عباده كيف شاء لقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، وأشباه ذلك من آيات الصفات، ولا نتأولها ولا نكشف عنها بل نكف عن ذلك كما كف عنه السلف الصالح، ونؤمن بأن الله على عرشه كما أخبر في كتابه العزيز ولا نقول هو في كل مكان، بل هو في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان كما قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، وكما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، وكما جاء في حديث الإسراء إلى السماء السابعة: «ثم دنا من ربه» وكما في حديث سوداء أريدت أن تعتق فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين ربك؟» فقالت: في السماء فقال : «أعتقها فإنها مؤمنة» وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة، نؤمن بذلك ولا نجحد شيئا من ذلك، وقد روت الثقات عن مالك بن أنس أن سائلاً سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فقال: الاستواء غير مجهول، و الكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»، أقول: وما جاء في أثناء كلامه من ذكر دنو الرب وتدليه الصحيح خلافه وأن المراد به جبريل، ففي صحيح البخاري (3235) ومسلم (442) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَيْنَ قَوْلُهُ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}؟ قَالَتْ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ» الحديث، قال ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء (8/376): «وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ ــ يعني ابن أبي نمر ــ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم رأى الله عز وجل يَعْنِي قَوْلَهُ: «ثُمَّ دَنا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» قَالَ وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ أصح، وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا» أخرجه مسلم، وقوله: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صَحِيحِ مسلم عن أبي هريرة، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا».

وقد تقدم أن فراغ النووي رحمه الله من نسخ الكتاب حصل قبل وفاته بأقل من خمسة أشهر، وذلك يوضح أن معتقده في آخر حياته هو ما عليه السلف من إثبات الصفات من غير تشبيه أو تأويل أو تعطيل، وأن ما جاء في كتبه من التأويل قد رجع عنه، رحمه الله وغفر له.

وأما الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله فيدل على سلامته في العقيدة ما جاء في أواخر شرحه فتح الباري من نقول عن السلف في صفات الله عز وجل فيها إثبات الصفات بدون تكييف أو تشبيه وتنزيه بلا تأويل أو تعطيل، وقد نقل في الفتح (13/507) في آخر شرحه لباب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} كلاما نفيسا لأبي المظفر بن السمعاني قال فيه: «واستدلَّ أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلِّمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجَوهر وعرض، قالوا فالجسمُ ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يَقوم بنفسه، وجعلوا الرُّوح من الأعراض، وردُّوا الأخبارَ في خَلق الرُّوح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حَدْسهم وما يؤدِّي إليه نظرُهم، ثم يَعرضون عليه النصوصَ فما وافقه قبلوه وما خالفه ردُّوه، ثمَّ ساق هذه الآيات ونظائرَها من الأمر بالتبليغ، قال: وكان مِمَّا أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصلُ ما أمرَ به فلم يترك شيئاً من أمور الدِّين أصولَه وقواعدَه وشرائعَه إلَّا بلَّغه، ثمَّ لَم يَدْعُ إلى الاستدلال بما تَمسَّكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه، فعُرف بذلك أنَّهم ذهبوا خلافَ مذهبهم وسلكوا غيرَ سبيلهم بطريق مُحدَث مُخترَع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العودُ على السلف بالطعن والقَدْح، ونسبتهم إلى قلَّة المعرفة واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض، وما من كلام تَسمعه لفرقة منهم إلَّا وتَجدُ لخصومهم عليه كلاماً يوازنه أو يقاربه، فكلٌّ بكلٍّ مقابل، وبعضٌ ببعضٍ مُعارَض، وحسبُك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنَّا إذا جَرينا على ما قالوه وألزمنا الناسَ بما ذكروه لزِم مِن ذلك تكفيرُ العوَام جميعاً؛ لأنَّهم لا يعرفون إلَّا الاتِّباعَ المجرَّد، ولو عُرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرُهم فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنَّما غاية توحيدهم التزامُ ما وجدوا عليه أئمَّتَهم في عقائد الدِّين والعضُّ عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوبٍ سليمة طاهرة عن الشُّبَه والشكوك، فتراهم لا يَحيدون عما اعتقدوه ولو قُطِّعوا إرَباً إرَباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كُفِّر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمَّة، فما هذا إلَّا طَيُّ بِساط الإسلام وهدمُ مَنَار الدِّين، والله المستعان».

أقول: وما جاء في كلام أبي المظفر من ذِكر خلق العقل قبل الخلق فيه نظر؛ قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف (ص:50): «ونحن ننبِّه على أمور كليَّة يُعرف بها كون الحديث موضوعاً» إلى أن قال (ص:66): «ومنها أحاديث العقل، كلُّها كذب ... وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحُّ في العقل حديث، قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم ابن حبان، والله أعلم».

وقال في الفتح (13/504): «وقد احتج أحمد بن حنبل بهذه الآية ــ يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ــ على أن القرآن غير مخلوق لأنه لم يرد في شيء من القرآن ولا من الأحاديث أنه مخلوق ولا ما يدل على أنه مخلوق ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم»، أقول: والجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية، ونسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان لأنه هو الذي أظهر هذا المذهب الباطل ونشره، وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله: لو كان ما يقوله الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين حقا لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ونقل في الفتح (13/407) نقولا عن جماعة من السلف في إثبات الصفات من غير تشبيه أو تحريف أو تعطيل، وختم ذلك بكلام نفيس له؛ ومِمَّا قاله (13/407 ـ 408): «وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبةُ وحماد بنُ زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدِّدون ولا يشبِّهون، ويروُون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرُنا، وأسند اللاَّلكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلُّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرَّبِّ من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسَّر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عمَّا كان عليه النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وفارق الجماعةَ؛ لأنه وَصفَ الرَّبَّ بصفَة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيَّ ومالكاً والثوريَّ والليث ابنَ سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، وأخرج ابنُ أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبدالأعلى: سمعتُ الشافعيَّ يقول: لله أسماء وصفاتٌ، لا يَسَع أحداً رَدُّها، ومَن خالف بعد ثبوت الحجَّة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذر بالجهل؛ لأنَّ عِلمَ ذلك لا يُدرَك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبتُ هذه الصفات، ونَنفي عنه التشبيهَ، كما نفَى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وأسند البيهقيُّ بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان بن عيينة قال: كلُّ ما وَصف الله به نفسَه في كتابه فتفسيرُه تلاوتُه والسكوتُ عنه، ومن طريق أبي بكر الضُّبَعي قال: مذهبُ أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: بلا كيف، والآثارُ فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل، وقال الترمذي في الجامع عَقب حديث أبي هريرة في النُزول: وهو على العرش كما وصفَ به نفسه في كتابه، كذا قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات، وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتَوهَّم، ولا يُقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عُيينة وابن المبارك أنَّهم أَمَرُّوها بلا كيف، وهذا قولُ أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأمَّا الجهميَّةُ فأنكروها، وقالوا هذا تشبيهٌ. وقال إسحاق بن راهويه: إنَّما يكون التشبيهُ لو قيل يدٌ كيَدٍ، وسَمعٌ كسمعٍ، وقال في تفسير المائدة: قال الأئمةُ: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم: الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك، وقال ابن عبدالبر: أهلُ السُّنَّة مُجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ولم يُكَيِّفوا شيئاً منها، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ والخوارجُ فقالوا: مَن أقرَّ بها فهو مشبِّهٌ، فسمَّاهم مَن أقَرَّ بها مُعَطِّلةً، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالكُ العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضُهم تأويلَها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يَصحُّ من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويضِ معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأياً ونَدين الله به عقيدةً اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدَّليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتماً لأوشكَ أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتَّبَع. انتهى.

ثم قال الحافظ: «وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة».

أقول: وما جاء في كلام الجوينِي من أنَّ السَّلف يُفوِّضون معاني الصفات إلى الله عزَّ وجلَّ غير صحيح؛ فإنَّهم يُفوِّضون في الكيف، ولا يُفوِّضون في المعنى، كما جاء عن مالك رحمه الله، فقد سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال: «الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد نقله عن كثير من السلف العقيدة الصحيحة في الصفات: «وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة» أقول: قوله هذا يدل على سلامته فيما يغلب على الظن في العقيدة وأنه يسلك مسلك السلف في ذلك، لاسيما وأن كلامه هذا جاء في أواخر شرحه فتح الباري.

وأسأل الله عز وجل لهذين الحافظين النووي والعسقلاني المغفرة والرحمة وأن يجزل لهما المثوبة على ما خلفاه من تراث علمي عظيم، نفعه لطلاب العلم عميم، وأن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم للفقه في الدين والثبات على الحق، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.