تنبيه: يوجد في نهاية المجلد الثامن من المجموع ((الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى)) إضافة فوائد جديدة لم تكن في المطبوع
شرح صحيح البخاري يوميا عدا الجمعة بعد صلاة المغرب بالمسجد النبوي

وجوب إعفاء اللحى دلت عليه السنة قولاً وفعلاً وتقريراً

13/04/1436هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة عنه هي أقواله وأفعاله وتقريراته، وقد اجتمعت هذه الأمور الثلاثة في إعفاء اللحى؛ حيث جاء إعفاؤها من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره لغيره على ذلك، واللحية في اللغة ما نبت على الخدين والذقن، قال في القاموس المحيط: «اللحية بالكسر شعر الخدين والذقن».

 

فأما قوله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الصحيحين الأمر منه صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى بصيغ متعددة، منها الإعفاء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى» رواه البخاري (5893) ومسلم (600) واللفظ له عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومنها التوفير وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب» رواه البخاري (5892) عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومنها الإيفاء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوراب وأوفوا اللحى» رواه مسلم (602) عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومنها الإرخاء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم «أحفوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم (603) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الأمر في هذه الأحاديث بالإعفاء والتوفير والإيفاء والإرخاء يدل على وجوب إعفاء اللحى وألا يتعرض لها بحلق أو تقصير، وأن في ذلك مخالفة للكفار، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما رواه البخاري (5858) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»، فهذا الحديث يدل بعمومه على أن حلق الرجال اللحى فيه تشبه بالنساء والله عز وجل لما خلق الناس ميز بين الذكر والأنثى فجعل جمال النساء في خلو وجوههن من الشعر، وجعل جمال الرجال في اللحى التي هي العلامة الحسية المشاهدة في الفرق بين الرجال والنساء.

وأما فعله صلى الله عليه وسلم فقد كان معفياً لحيته صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنه كان يأخذ منها شيئاً، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون على قراءته في الصلوات السرية وهم يصلون وراءه برؤيتهم اضطراب لحيته بسبب القراءة، فقد أخرج البخاري (746) في باب رفع البصر إلى الإمام عن أبي معمر قال: قلنا لخباب: «أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال نعم، قلنا: بم كنتم تعرفون ذلك؟ قال باضطراب لحيته»، وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي (2762) عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها» فهو حديث ضعيف؛ في إسناده عمر بن هارون البلخي، قال عنه الحافظ في التقريب: «متروك»، وجاء في ترجمته وصف بعض العلماء له بالكذب ولهذا حكم عليه الشيخ الألباني بأنه موضوع كما في: «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (288).

وأما تقريراته فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معفين لحاهم اقتداء به في قوله وفعله صلى الله عليه وسلم وكان يراهم ويقرهم على ذلك، وقد ذكر شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (4/630) في تفسير سورة طه عند ذكر موسى وهارون دلالة القرآن على إعفاء اللحى وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وقال: «وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق، ونرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه»، وقال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في منسكه: «وقد عظمت المصيبة في هذا العصر بمخالفة كثير من الناس هذه السنة ومحاربتهم للحى ورضاهم بمشابهة الكفار والنساء، ولاسيما من ينتسب إلى العلم والتعليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون»!

وما جاء في الأحاديث السابقة من الأمر بالإعفاء والتوفير والإيفاء والإرخاء بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله وأنه لم يكن يأخذ من لحيته شيئاً، وأما ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من أخذ ما زاد على القبضة منها كما جاء في صحيح البخاري (5892) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين، ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه»، فإن الأخذ بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأخذ بما جاء عن ابن عمر وغيره ممن يصح عنه ذلك من الصحابة.

ولو أن بعض الناس في هذا الزمان من طلبة العلم وغيرهم اكتفوا بأخذ ما زاد على القبضة لكان الأمر أهون، ومن المعلوم أن وجود اللحى بمقدار القبضة إبقاء لشعر كثير قد لا يُظن معه أنه أُخذ من اللحية شيء، ولكنَّ كثيراً من الناس ولاسيما بعض طلبة العلم يقصون لحاهم حتى لا يبقى منها إلا الشيء القليل جداً، ومثل ذلك لا يصدق عليه إعفاء وتوفير وإيفاء وإرخاء؛ فإن مثل هذا المقدار لا يقال لإبقائه إعفاء، ولا ينبغي لطالب علم أن يزعم أن وجود شيء من شعر اللحية ــ ولو كان قليلاً ــ إعفاء فيغتر بعض الناس بمثل هذا الكلام، ويُخشى عليه أن يلحقه من الإثم مثل آثام من اغتر بذلك، ولا يعالج الخطأ بتكلف ما يبرره ويهون من شأنه، وقد أحسن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عندما لامه أحد أصدقائه على حلق اللحية فقال كما في كتابه «مع الناس» (ص177): «أما حلق اللحية فلا والله لا أجمع على نفسي بين الفعل السيئ والقول السيئ، ولا أكتم الحق لأني مخالفه، ولا أكذب على الله ولا على الناس، وأنا أقر على نفسي أني مخطئ في هذا، ولقد حاولت مراراً أن أدع هذا الخطأ ولكن غلبتني شهوة النفس وقوة العادة، وأنا أسأل الله أن يعينني على نفسي حتى أطلقها، واسألوا الله ذلك لي؛ فإن دعاء المؤمن للمؤمن بظهر الغيب لا يرد إن شاء الله»، وقد علق في الحاشية فقال: «وقد أعانني فله الحمد».

وأما الشوارب فجاء الأمر منه صلى الله عليه وسلم بإحفائها وجزها كما تقدم، وبإنهاكها كما في صحيح البخاري (5893)، وبقصها كما في صحيح البخاري (5888)، والقص هو الأخذ بالمقص وفيه أخذ وترك، ولفظ الإنهاك يدل على المبالغة في الأخذ، وأقبح هيئة لوجه الرجل أن يطيل شاربه ويوفره ويحلق لحيته؛ لأن في ذلك جمعاً بين المعصيتين في الشوارب واللحى وهو تغيير للفطرة كما في صحيح مسلم (604) من حديث عائشة رضي الله عنها: «عشر من الفطرة ...» وذكر في أولها: «قص الشارب وإعفاء اللحية».

وأسأل الله أن يوفق المسلمين جميعاً في كل مكان للالتزام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم، وأن يهديهم سبل السلام، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.