تنبيه: يوجد في نهاية المجلد الثامن من المجموع ((الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى)) إضافة فوائد جديدة لم تكن في المطبوع
شرح صحيح البخاري يوميا عدا الجمعة بعد صلاة المغرب بالمسجد النبوي

تجمعات البراءة من المشركين لا نتيجة لها إلا إيذاء المسلمين

28/11/1430هـ

الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد، فقد تناقلت وسائل الإعلام عن أحد الزعماءِ الدعوةَ إلى إعلان البراءة من المشركين في موسم حج سنة 1430هـ، ولذا كتبت هذه الكلمة الناصحة وأسأل الله أن ينفع بها، فأقول: إن إعلان البراءة من المشركين في الحج حصل في السنة التاسعة في حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث نادى هو وعلي رضي الله عنهما في تلك السنة ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وتحقق ذلك في السنة العاشرة في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان، ولم يحصل في تلك السنة إعلان البراءة من المشركين ولا في عهود الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان ووعلي رضي الله عنهم، ولا حصل بعد ذلك فيما أعلم إلا ما كان من القرامطة الذين أجرموا نهاية الإجرام وعثوا في الحرم فساداً وقتلوا الحجاج فيما سجله لهم التاريخ، وقد بدأ تجمع فئة من الحجاج لإعلان البراءة من المشركين في عام (1399هـ) وسنوات بعدها، ومن هتافهم في إعلان البراءة المزعومة: ((تسقط أمريكا)) و ((الموت لأمريكا))، ولم تمت أمريكا ولم تسقط بهذا الهتاف، بل سقط مئات الموتى من الحجاج في اليوم السادس من شهر ذي الحجة عام (1407هـ) بسبب الزحام في هذه التجمعات حيث التحم الحجاج بعضهم ببعض ووطئ بعضهم بعضاً، وقد مرت هذه التجربة التي حصل فيها هذه المأساة العظيمة، ومضى بعدها سنوات عديدة سلم فيها الحجاج من مثل هذه التجمعات لتعقّل بعض الزعماء وتذكر هذه المأساة، وكأن هذه المأساة نسيت الآن فجاءت الدعوة من جديد لإعلان البراءة من المشركين بمثل هذه التجمعات.

واللائق بكل من لنفسه عنده قيمة من هذه الفئة من الحجاج وزعيمهم ألا يكونوا سبباً في إلحاق الضرر بحجاج بيت الله الحرام، وقد قال الله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، وقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}، وقال: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِم}، وقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) رواه مسلم (6572)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، الحديث)) رواه مسلم (6576)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري (10) ومسلم (161) زاد البخاري: ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))، وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) رواه أحمد (23958) بإسناد صحيح،وقال صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) رواه مسلم (6579)، وجواب الصحابة رضي الله عنهم بناء على ظنهم أنه صلى الله عليه وسلم أراد مفلس الدنيا وهو إنما أراد مفلس الآخرة الذي أوضح صلى الله عليه وسلم كيفية إفلاسه في هذا الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم (6541)، ولما خطب صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر في حجة الوداع لم يأمرهم بإعلان البراءة من المشركين والتجمع لها، وإنما قرر حرمة البلد والشهر واليوم ثم قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) رواه البخاري (67) ومسلم (4384).

وبعد إيراد هذه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في التحذير من إلحاق أي ضرر بأحد من المسلمين أورد بعض الآثار السيئة التي تترتب على هذه التجمعات لهذه البراءة المزعومة:

(1): أن فيه إلحاق الضرر بالحجاج في أجسادهم وحركة سيرهم.

(2): أن فيه ظلما للحجاج يترتب عليه دعاء المظلوم على ظالمه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري (1496) ومسلم (121).

(3): أن التجمع لهذه البراءة من الأمور المحدثة في الحج منذ ثلاثين عاما فقط، ولم تحصل في حجة الوداع ولا بعدها.

(4): أن الفئة التي تقوم بهذا التجمع شاذة في هذا التصرف المشين عن الحجاج من جميع الآفاق.

(5): أن الصيد آمن في الحرم لا يجوز التعرض له بأي ضرر حتى تنفيره، والحجاج ومن في الحرم أولى منه بالأمن والسلامة من الأذى، بل إن الحجاج والمعتمرين إذا دخلوا في الإحرام لم يجز لهم التعرض لصيد الحل، والمعنى أن الواجب على أي حاج أن يكون نصيب الحجاج وغيرهم منه الأمن والسلامة من شره.

(6): أن الحجاج من جميع الآفاق يمقتون هذا التجمع المؤذي ويفضحون في بلادهم القائمين به.

(7): أن الأذى للحجاج لا يقتصر عليهم، بل يتعداهم إلى أهليهم وذويهم في بلادهم؛ فإنهم يتأذون بالأذى الذي حصل لحجاجهم.

(8): أن حصول الأذى لمسلم واحد خطير، فكيف بإيذاء الحجاج من جميع الآفاق الذين جاؤوا لأداء عبادة عظيمة يحبون أداءها براحة وطمأنينة.

(9): أن في هذا التجمع ترويعاً للحجاج، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً)) رواه أحمد (23064) وأبو داود (5004) بإسناد صحيح.

(10): أن فيه إشغال الكثيرين من رجال الأمن بهذه التجمعات في الوقت الذي ينبغي أن تكون الجهود كلها مبذولة لخدمة الحجاج.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق الحجاج لأداء الحج بيسر وطمأنينة، وأن يعودوا بعد حجهم إلى بلادهم سالمين غانمين، اللهم من أحسن إلى الحجاج فأحسن إليه، ومن شق عليهم فاشقق عليه واكفهم شره بما شئت، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ووفقهم للتمسك بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عبد المحسن بن حمد العباد البدر